لا يمكن أن يكشف وجه الثّورة الجزائرية إلّا من رأى إنسانا جزائريا..
ولا يمكن أن يعرف طبيعة الثّورة إلّا من تكلم أو دخل حوارا مع جزائري أو جزائرية..
إنّ كلّ محاولة لفهم الثّورة الجزائرية من بعيد تبقى محاولة نظرية أو ذهنية كبعض أشكال الرّسم التجريدي،أو بعض أشكال الحبّ العذري و أنا لم أخرج من مرحلة الحبّ العذري الجزائري إلّا في نيسان الماضي حين وطأت قدماي للمرة الأولى أرض الجزائر..
صحيح أنّ الجزائر كانت قصيدة مرسومة بأكواريوم في مخيلتنا،و كانت ثورتها لؤلؤة تتوهج في قلب كلّ مثقف عربي،و بين أصابع،و لكن كلّ ما كتبناه عن"ليلى الجزائرية" كان على عذربته وبراءته وصدقه شبيها بما كتبه جميل بثينة في لحظة من لحظات العشق الكبير..
ومع إحترامي للعشاق العذريين،و لدموعهم و صباباتهم،و أشواقهم أحسست بعد أن رأيت الجزائر،أنّها أكبر من جميع عشاقها،و أعظم من جميع ما كتب عنها..
ولا أدري لماذا شعرت و أنا أقف على شرفة غرفتي في الفندق،و الميناء تحتي مهرجان من الضوء و الماء و الجواهر،برغبة طاغية في البكاء،أو الإعتذار من"حيّ القصبة" بأزقته الضيقة و سلالمه الحجرية و منازله الخشبية التّي تخبيء البطولات فيها،كما يختبيء الكحل في العين السوداء.
آه..كم هو جميل وجه الجزائر..
إنّك لا ترى عليه أيّة علامة من علامات الشيخوخة،أو أيّ تجعيدة تشعرك بأنّ الزّمن مرّ على الوجه الذّي لا يزال محتفظا بطفولته حتّى الآن..
وفي حين دخلت أكثر الثورات العربية - بعد أن حكمت - مستودع الموظفين و أصبحت عضوا في نادي المتقاعدين،نرى أنّ الثّورة الجزائرية لا تزال تمارس رياضة الركض،و القفز،و سباحة المسافات الطويلة بعد زمن طويل من إنطلاق رصاصة التّحرير الأولى في نوفمبر 1954 و لا تزال الثّورة الجزائرية تتفجر عافية وطموحا وشبابا..
و من أروع ما شاهدته في الجزائر أنّ كلّ جزائري تقابله،يشعرك بأنّه هو الثّورة،فهي موجودة في نبرات صوته،و بريق عينه،و حركات يده،و كبريائه و عنفوانه،و طبيعته المتفجرة،و طقسه الذّي لا يعرف الإعتدال..
في كلّ مكان دخلت إليه في الجزائر،وجدت الثّورة تنتظرني،في رئاسة الجمهورية،في الإدارات العامة،في مبنى التلفزيون و الإذاعة،في الرّيف،في بيوت الفلاحين النّمودجية،في مستوصفات الطبّ المجاني،في المجمعات السياحية،في جامعة قسنطينة المدهشة،في الصحافة،في حركة التعريب الرّائعة،في الأدب الجديد الواعد،في طموح اللّغة العربية المجنون لتعويض ما خسرته خلال 132 سنة من القمع والحصار ومحاولات التّصفية..
ولن أنسى أبدا ليلة أمسيتي الشّعرية الأولى في قاعة" كابري" في الجزائر العاصمة،حيث وصلت السّاعة السادسة لأجد القاعة تكاد أن تنفجر بمن فيها،و أنّ الأكسجين قد استهلك تماما..
و كان من المستحيل عليّ أن أصل إلى المنبر،و الإخوة الجزائريين أخذوا حتّى الكرسي الذّي كان مخصصا لجلوسي..
و طبعا لم أتمكن من الدخول،و تقرر تأجيل الأمسية الشّعرية حتّى يتّم إختيار مكان أوسع يكفي لجلوس آلاف الجزائريين جاءوا لسماع شاعر عربي..
و عندما رجعت إلى فندقي سألت نفسي،و نهر من دموع الفرح والكبرياء يتدفق عني: يا ترى لو جاء "أراغون" أو "بول ايلوار" أو" بول فاليري" لقراءة الشّعر في قاعة كابري فهل كان الأكسجين سينتهي من القاعة؟؟و هل كان الجزائريون سيأخذون كرسيه كما فعلوا معي؟
إنّ زيارتي للجزائر وضعت نهاية للكذبة الكبرى التّي تقول: إنّ اللّغة العربية مواطنة في الدّرجة الثانية في الجزائر،و إن الشّاعر العربي فيها غريب الوجه والفم واللّسان..
من قال هذا الكلام؟؟
إنّ الجزائر التّي دخلتها كانت وجها عربيا تضيء فيه مدن دمشق و بغداد و مكة،و تعبق منه مروءات قريش..
و أرجوا أن تسامحوا غروري،إذا قلت إنّني لو رشحت نفسي في أيّ إنتخابات شعرية في الجزائر لنجحت أنا وسقط " أراغون"
عربيا لا يحتاج المرء إلى منظار مكبر ليكشف أنّ الثّورة الجزائرية هي الإمتداد الطبيعي لكلّ الثّورات العربية الأخرى،أو أنّ هذه الثّورات هي إمتدادها..
و الثّورة الجزائرية حين تعبر عن إنتمائها العربي،لا تعبر عن ذلك بشكل استعراضي،أو برومانسية مرّ عليها الزّمن و إنّما تضع ثقلها المادي و الدّولي و الإقتصادي و الحربي في كلّ معارك العرب..
و في كلّ الحروب العربية - الإسرائيلية،كانت الجزائر معنا تجهيزا و تمويلا و في كلّ مؤتمرات القمة العربية،كانت الجزائر مع استمرار الثّورة المسلحة،و ضدّ أنصاف الحلول،و أنصاف الخيارات،و أنصاف المواقف..
و هكذا نرى أنّ الثّورة الجزائرية بعد عشرات السّنين من النّضال لا تزال في داخل الثّورة،و لا يزال كلّ جزائري مستنفرا و واقفا على خط النّار،و حاملا بارودته على كتفه،تماما كما كان في نوفمبر 1954
فتحيّة للوطن الجزائري العظيم وتحيّة للثّورة التّي لا تأخذ إجازة...